لقد كان إطلاق صاروخ Spoutnik I في الرابع من أكتوبر عـام 1957 نصرا علميا وتقنيا باهرا وحدثا سياسيا خطيرا في آن معا، فالروس والأمريكيـون
كانوا كما نعلم يخوضون غمار الحرب الباردة، مما جعل نجـاح السـوفيتيين فـي وضع أول قمر صناعي في المدار يتخذ في أعين الأمريكيين شكل رجـة سياسـية عنيفة. أجل، لا مراء في أنهم هم أيضا كانوا قريبين من تحقيق الهدف نفسه، بدليل أنهم بعد أقل من أربعة أشهر على ذلك، أي في 31 يناير من عام 1958، تمكنـوا من إرسال قمر Explorer I، أول الأقمار الاصطناعية الأمريكية. لكن السوفييتيين كانوا بالنسبة إلى العالم كله قد حققوا نصرا كبيرا في مجال تقني لا تخفـى أهميـة التطبيقات العسكرية التي يمكن أن تنبثق عنه.
حسمت إذن مسألة السبق إلى إطلاق أول قمر صناعي، فتطلعت الأبصـار إلى من سينجح في وضع أول إنسان في مدار فضائي. هنا أيضا حـاز السوفييت قصب الرهان بإرسالهم رائدهم الشهير Youri Gagarine ليدور حول الأرض في ١٢ أبريل من عام ١٩٦١، متقدما بنحو عام كامل على الرائد الأمريكي John Glenn، الذي لن يقوم بجولته الفضائية القصيرة إلا في ٢٠ فبرايـر مـن العـام الموالي. وبذلك أقام السوفييت الدليل مرتين على مقدرتهم التقنية، إذ برهنوا علـى تفوق باهر في ميدان ليس من السهل ولوجه ولا المقارعة فيه.
كان لا بد لأمريكا من انتقام لكرامتها الجريح، وهو ما اجتهدت فيه وجدت، فتحقق لها ما أرادت، إذ كانت أول رحلة مأهولة تحط على سـطح القمـر رحلـة 11 Apollo الأمريكية، التي نزل رائدان من طاقمها على ظهره في ٢١ يوليو من عام 1969. والحق أن الأمر لم يكن البتة سهلا. فالذاهب إلى القمر لا بد له مـن وسيلة تعود به إلى الأرض، وصعوبة تحقيق ذلك هي بالذات ما منع السوفيتيين من أن يسبقوا الأمريكيين إلى هذا الأمر كما سبقوهم إلى غيره. ولا يجوز لومهم فـي ذلك، إذ الإحجام عن إرسال رحلة مأهولة خير من الرمي بطاقم بشري في رحلـة ذهاب بلا رجعة لو وقعت لكانت كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
خرج الإنسان إذن إلى الفضاء الخارجي وعاد منه سالما. لكن بين الجولـة السريعة والمحطة الفضائية الدائمة كانت هناك خطوات تقنية جبارة يتعين قطعهـا، وهو ما فعله السوفيت محرزين فيه السبق على الأمريكيين مرة أخرى، إذ نجحـوا في وضع محطتهم Saliout I في مدار فضائي في أبريل من عـام ۱۹۷۱، قبـل إقامة الأمريكيين محطة Skylab بسنتين اثنتين.
كان السباق محموما والصراع على أشده، لكن مـن طبـع الأبطـال أنهـم يعرفون كيف يتحلون بالنبل والشهامة حتى وهم في خضم أوار المعركة، وهكـذا رأى العالم في يوم 17 يوليو من عام 1975 ملاحا سوفيتيا من طاقم Soyouz يشد على يد ملاح أمريكي وهما يسبحان معا في الفضاء.
لكن ما المانع ونحن نستعرض أيام المجد هذه من ذكر يوم تاريخي آخـر، ونعني يوم ديسمبر من عام ١٩٧٩، يوم إطلاق أولى رحلات Ariane
ولنذكر في هذا الصدد أيضا بعض الرواد، لا رواد الفضاء الـذين انطلقـوا إليه في داخل مركباتهم، بل رواد الأبحاث في هذا المجال، الذين مهدوا لهم السبيل.
ونذكر منهم أول ما نذكر Robert Esnault-Pelterie المهنـدس الفرنسـي المولود في ١٨٨١، الذي اخترع مقود الطائرة، والذي كـان وراء فكـرة الـدفع النفاث، إذ أقام الدليل على إمكان بناء صواريخ قادرة على القيام برحلات نحـو الفضاء الخارجي. أما Robert Goddard (۱۸۸۲-١٩٤٥)، فقد نجح عام ١٩٢٦ في إطلاق أول صاروخ يعمل بالمحروقات السائلة. كان ذلك في الولايات المتحدة، ولم يتجاوز الصاروخ في إقلاعه ارتفاع ١٢،٥ متـرا، لكـن المـهـم أن التجربـة نجحت...
وأما المهندسون الألمان، فقد اضطلعوا بدور هام في تطوير تقنيات إطـلاق الصواريخ. ونذكر من بينهم المهندس Hermann Oberth (۱۹۸۹-۱٨٩٤)، الذي نشر في عام ١٩٢٩ بحثا بالغ الأهمية في علم ريادة الفضاء، ثم انتهى به المطـاف عام 1930 في الولايات المتحدة، حيث اشتغل مع von Braun في تطوير وسـائل إطلاق الصواريخ.
أما في الاتحاد السوفيتي، فإن مهندسا أوكرانيـا يـدعى Serguei Korolev (١٩٠٦-١٩٦٦) هو من نجح عام 1933 في صنع أول صاروخ سوفيتي يعمـل بالمحروقات السائلة، كما أنه هو من صمم صاروخ Zemiorka الذي استخدم فـي إطلاق Spoutnik عام 1957.
لا شك أن المهندس الكبير Wernher von Braun كان يستحق أن يحتل في هذه اللائحة مكان الصدارة، لولا أن الظروف شاءت لسـوء الصـدف أن يكـون الرجل إبان الحرب العالمية الثانية مديرا لقاعدة Peenemünde الألمانية، فأصـبح بذلك مهندس صواريخ V2 سيئة الذكر. بيد أن اشتغاله لحساب ألمانيا النازيـة لـم يثنه، ما إن وضعت الحرب أوزارها، عن الانتقال إلى الولايات المتحدة ليتم أبحاثه فيها. فالرجل لم يكن له وطن، أو قل إن وطنه كان هو عالم الصواريخ...
ولم يتخلف العسكريون الفرنسيون عن الركب، بـل طـوروا هـم أيضـا صواريخ أطلقوا عليها أسماء أحجار كريمة، من الزبرجد Topaze إلـى الزمـرد Emeraude فاللازورد Saphir فغيرها من الأسماء، انتهاء إلى الماس Diamant اسم الصاروخ الذي وضع القمر الصغير Asterix في مداره عام 1965، فأدخـل فرنسا بذلك نادي الأمم غازية الفضاء، وأتاح للفرنسيين وضع نحو اثني عشر قمرا صغيرا من زنة تناهز مائة كيلوغرام في مدارات تراوح 500 كيلومترا ارتفاعـا عن سطح الأرض. وكانت فرنسا قد أقامت خلال الفترة ذاتهـا منصـة الإطـلاق المسماة Kourou في غويانا الجديدة، إذ كانت منطقة "حمادة الكير" قد عادت كباقي التراب الوطني الجزائري إلى الوطن الأم بعد الاستقلال.
كان صاروخ Diamant بلا مراء صاروخ اطلاق جيدا، لكن كان لا بد من أن يتبعه خليفة له أكثر منه قوة. ذاك ما دفع بالفرنسيين إلى العمـل علـى إقنـاع جيرانهم الأوروبيين بالانضمام إليهم في عمل أوروبي مشترك، فكان في ذلك ميلاد هيأة ELDO الأوروبية المتخصصة في تطوير صواريخ الإطلاق، والتـي أسـند إليها العمل على تصور وبناء صاروخ إطلاق، اختير له من الأسماء أنسـبها لـه وأصدقها تعبيرا عن حاله: Europa. وإن نحن أردنا وصف هذا الصاروخ وصـفا مبسطا فسنقول إنه كان متكونا من ثلاث طبقات، أولاها بريطانية والثانية فرنسـية والثالثة ألمانية. وقد أريد له في بادئ الأمر أن يطلق من منصة في قاعدة أسترالية حمولات من نحو طن واحد إلى مدار على علو 500 كيلومتر، ثم جرى تغييـر الهدف ليصبح إطلاق قمر من زنة ٢٠٠ كيلوغرام، لكن إلـى المـدار الأرضـي الثابت، على علو 36000 كیلومتر.
جرت محاولة إطلاق Europa عشر مرات متتالية، منيـت كلـهـا بالفشـل، وكللت بانفجار الصاروخ الذي أطلق لأول مرة من قاعدة Kourou الجديـدة عـام ۱۹۷۱. كان لا إذن من وقفة فمراجعة للنفس. واتضح بعد البحث أن الأسباب التي قادت هذا الفشل الذريع تكن تختلف كبير اختلاف عن تلك التي وقفـت دون أسلافنا أهل بابل ودون إتمام بناء البرج الذي راموا أن يبلغوا بـه عنـان السماء. وعاد الفرنسيون يقترحون حلا في شكل برنامج جديد، يعمل تحـت إمـرة مسير أعمال واحد، وبقيادة مهندس صناعي مسؤول واحد، فكان في ذلـك مـيلاد برنامج Ariane الذي قادته الوكالة الفضائية الأوروبية الجديدة، وكالـة ESA (اختصارا لعبارة European Space Agency)، فأسندت أمر السهر على إنجـازه إلى وكالة الأبحاث الفضائية الوطنية الفرنسية CNES المقامة عـام 1961التـي عينت بدورها شركة Aerospatiale قائما على الإنجاز الصناعي الفرنسي.
أما تسمية Ariane، فيعود إطلاقها على البرنامج إلى وزير الصناعة الفرنسي آنذاك، Jean Charbonnel، الذي كان أستاذا مبرزا في التاريخ، فـاقترح الاسم وهو في الخيط الذي أسعفت به البطلة اليونانية الأسطورية Ariane Thésée للخروج من المتاهة بعد قتله الوحش Minotaure، متوخيا في تبني الاسم خيطا يقود خطي البرنامج الفضائي الأوروبي فيخرجه من متاهته. وتنقسـم البرامج التي تقودها وكالة ESA الفضائية الأوروبية إلى قسمين، أما أولها فهو ما يعرف باسم "البرامج ذات الطابع الإجباري"، ومنها البرامج العلمية. ويعتمـد فـي تمويل هذا الصنف من البرامج على مساهمات تقتطع من ميزانيات الدول الأعضاء الأربع عشرة بناء على الناتج الداخلي الخام بكل منها. وأما الصنف الثـاني مـن البرامج فاختياري، تسهم فيه كل دولة بما يناسب، وإلـى هـذا الصنف تنسـب الأبحاث المتعلقة بتطوير صواريخ الإطلاق. وتسهم فرنسا بنحو عشرين بالمائة من ميزانية الصنف الأول، وألمانيا يخمسة وعشرين. أما فيما تعلق ببرنامج Ariane فقد اختارت فرنسا منذ البداية تحمل نحو ميزانية البرنامج العامة.
مهمات صواريخ إطلاق المركبات الفضائية
يتعين على صاروخ الإطلاق أن يكون قادرا على إنجـاز مهمـات ثـلاث، أولاها التغلب على الجاذبية الأرضية من أجل نقل "الحمولة الصـافية" (أي القمـر الصناعي أو الأقمار الصناعية) لوضعها في مدار ثابت، وثانيتهـا الـتمكن عنـد الانطلاق من اختراق فضاء كثيف يحتك به جسم الصاروخ فيكاد. يلتهب نارا مـن حرارة الاحتكاك المتولد عن السرعة، وثالثتها إيتاء الحمولة الصافية سرعة خطيـة كافية، تبلغ كيلومترات عديدة في الثانية الواحدة، تمكنها من الاستقرار فـي مـدار حول الأرض.
ويمكن تصنيف المدارات التي تضع وكالات الفضاء أكثر أقمارها عليها في أربعة أنواع:
أما الأول، فهو ما يعرف باسم المدار الأرضي الثابت، ويقصـد بـذلك يوضع القمر الاصطناعي في مدار يجعله يبدو بالنسبة إلى الناظر إليه من الأرد وكأنه ثابت مكانه لا يتحرك، وذلك يقتضي أن يدور القمر بسرعة دائرية مسـاو لسرعة دوران الأرض حول نفسها، ويوجد هذا المـدار علـى ارتفاع 6000 كيلومتر عن سطح الأرض في موازاة خط الاستواء، مما يجعـل دورتـه حـو الأرض مساوية في الزمن لدورة هذه حول نفسها. ويحظى هذا المـدار بتفضـي المشتغلين في مجال الاتصالات البعدية، إذ ما أسهل أن يتعامل المرء في إرسـا الرسائل وتلقيه إياها مع نقطة معينة، هي القمر الاصطناعي، تظل مـن المنظـو الهندسي ثابتة طوال الوقت في إحداثيات القواعد الأرضية. وحيث إن لكـل عمل وجهين، فإن تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية التي لا تنـي الوكالات الفضـائي تضعها على هذا المدار لا بد من أن يؤدي إلى تساؤل عن نتائج اختنـاق مرتقـب وإن بعد حين. ذاك ما دفع إلى إقامة سلطات دولية تسهر على تنظيم استعمال هـذه الدائرة السماوية المتميزة عن غيرها من الدوائر.
وأما الصنف الثاني فهو المعروف باسم المدارات الشمسية الثابتـة، وهـي مدارات تكاد تكون قطبية، تقع على ارتفاع يتراوح بين ۹۰۰ و ۱۰۰۰ کیلومتر. وهم يضبطونها بطريقة حسابية تجعل القمر السابح في أحد هذه المدارات يمر فوق النقطة نفسها على سطح الأرض في الموعد نفسه من كل يوم. وفي ذلـك كمـا لا يخفی فوائد جمة لمن أراد مراقبة الأرض من الفضاء - لأغراض الأرصاد الجوية أو الأغراض العسكرية مثلا – إذ تتيح رؤية المنظر نفسه في ظـروف الإضـاءة نفسها مرات متعددة.
وأما الصنف الثالث فهو صنف المدارات المنخفضة، ويتراوح عنـو هـذه المدارات ما بین ۱۰۰۰ و ۲۰۰۰ کیلومتر، ويكون مقطعها منحنيا بدرجة تزيـد أو تنقص بالنسبة إلى مقطع خط الاستواء، ويدور القمر السابح فيهـا حـول الأرض دورة واحدة في نحو تسعين دقيقة. وتكتسي هذه المدارات أهمية بالنسبة إلى مجـال الاتصالات البعدية بفضل ما تتيحه من إمكان تغطية الكرة الأرضية تغطيـة تكـاد تكون تامة، إذ يمكن تصور أنظمة تتكون من عناقيد من الأقمـار الاصطناعية، يجري ترتيبها في المدار بطريقة تجعل المستعمل، أينما كان موقعه على الأرض، يجد قمرا اصطناعيا مطلا عليه من السماء ينقل إليه رسائله وينقل عنه الرسائل.
ثم لا ننسى في الأخير الرحلات الرابطة بين الكواكب. فنحن اليوم قادرون على إرسال مسابر حط بعضها على سطح المريخ أو الزهـرة، وطـاف بعضـها الآخر حول المذنبات واعترض سبيلها ليرسل إلينا عنها ما استطاع تجميعـه مـن معلومات، لكننا لا نزال عاجزين عن إرسال بشر إلى هناك، لما يمثله طول الرحلة من عائق ما زلنا لم نفلح في تجاوزه.
- كيف يشتغل صاروخ إطلاق المركبات الفضائية ؟
-------------------------------------------------
https://en.wikipedia.org/wiki/Sputnik_1
https://en.wikipedia.org/wiki/Yuri_Gagarin
https://en.wikipedia.org/wiki/Apollo_11
https://en.wikipedia.org/wiki/Salyut_1
https://fr.wikipedia.org/wiki/Soyouz_(v%C3%A9hicule_spatial)
https://en.wikipedia.org/wiki/Ariane_(rocket_family)
https://en.wikipedia.org/wiki/Robert_Esnault-Pelterie
https://en.wikipedia.org/wiki/Robert_H._Goddard
0 comments
إرسال تعليق