"ليس خير معلم من استطاع أن يضع في أذهان من يعلمهم أكبر قدر ممكن من المعلومات، فليس مقياس المعلم والمتعلم هو مقدار معلوماته، فقد يعرف إنسان عشر معلومات ويعرف كيف يستخدمها استخداما صحيحا، وكيف يستغلها خير استغلال، فيكون بذلك خيراً من إنسان يعرف مائة معلوم ولا يعرف كيف يستخدمها ولا كيف يستغلها.
ومثل ذلك مثل من عنده مكتبة فنية فيها آلاف الكتب القيمة من كل فرع من فروع العلم ثم هو لا يفتحها أو يفتحها ويطالعها في غير دقة وفهم، ومن عنده كتب قليلة جدا ولكنه يقرؤها ويتفهمها ويهضمها ويقلب ما فيها من الأفكار على أحسن الوجوه. فالثاني لا شك خير من الول مراراً. وإذا سئلنا عما ينتظر للنجاح لكليهما لم نتردد في الحكم على أن ذا الكتب القليلة الذي يعرف كيف يقرأ سيفوق مراراً ذا الكتب الكثيرة الذي لم يتقن فن القراءة.
بل ولا خير معلم من استطاع أن يتعرف تلاميذه ومقدار كفاية كل تلميذ ومواضع قوته ومواضع ضعفه، فذلك من غير شك يزيد قيمة المعلم، ولكن لا يكفي وحده لجعله خير معلم فقد يقتصر المعلم على هذه المعرفة الشخصية ولا ينجح في تطبيق معارفه في الحياة الواقعية إنما خير معلم ـ في نظري ـ هو المعلم الذي يعين تلميذه على أن أن يعرف نفسه فإذا كان للمعلم عشرون تلميذا واستطاع أن يقوم ملكات كل تلميذ ويعرف مواضع نبوغه ومواضع ضعفه وفي أي النواحي العقلية هو جيد نابغ، وفي أيها هو ضعيف خامل، وكيف يستغل القوي النابغة، وكيف يقوي الملكات الضعيفة، ثم نقل كل ذلك تلميذ وأشعره بنفسه، وعرف مناحي حياته العقلية والخلقية، وأوضح له خريطة واضحة حدود نفسه ومواضع عظمته مواضع نقصه، وعلمه كيف يستخدم ملكاته وقواه في كفاح الحياة، وكيف يقابل شؤونها بقواه وملكتاه فذلك خير معلم حقا.
وإذا وجد عدد وافر من هذا الطراز من المعلمين الذين لا يصبون كل التلاميذ في قالب واحد رغم اختلاف طبيعتهم بل عرفوا كيف يصوغون كل تلميذ حسب خلقته ويعرفونه بنفسه فبشر الأمة بالرقي الحق.
فخير معلم من يعلمني من أنا في نفسي ومن أنا في العالم، وما علاقة نفسي بمن حولي، واي موقف تصلح له نفسي لتؤدي خير ما يمكن أن يؤدي لخدمة العالم.
خير معلم من أحيا رغبتي في استكشاف نفسي، ثم إذا استكشفتها أحيا رغبتي في العمل على وفق ما تبين لي منها.
وليس هذا المقياس الذي ذكرت هو مقياس العلم وحده، بل يصح أن يتخذ مقياسا لكثير من الأشياء.
فيمكنك أن تحكم على كثير من الشياء لا بمقدار حسنها وجمالها، ولكن بمقدار ما تبعث فيك من حياة وبمقدار ما تضيئ لك جوانب نفسك.
وعلى هذا فليس الكتاب القيم هو ما يثير إعجابك، ويستحسن ذوقك من ناحية أسلوبه أو من ناحية معلوماته أو من ناحية استغراقك فيه واستلذاذك منه ـ وهذا كله خير، ولكن خير من هذا كله أن تقوم الكتاب بمقدار ما بعث فيك من حياة، وما أضاء لك من نواح كانت مظلمة، وما بثه فيك من روح كان خامدا. وعلى الجملة ما عرفك بنفسك وعرفك بالعالم وشوقك لأن تلاقي العالم بما عرفته من نفسك، وربما كان هذا هو أكبر سر في عظمة القرآن، فهو لا يخاطب العقل بالحقائق المجردة وكفى، إنما يوحي ويوحى دائما، ويبعث في النفس الشوق إلى معرفتها ومعرفة ما حولها، ومعرفة خالقها وخالق ما حولها.
كذلك ليس أعظم رجل بالنسبة لك هو الرجل الذي يستخرج منك الأعجاب بعظمته فحسب، بل هو الذي تراخ أو تقرؤه أو تسمعه فتشعر أنه كان لديك ينبوع مكبوث فتفجر أو كانت لك قوة كامنة مقيدة فانطلقت أو كانت لك ملكات محبوسة مغلولة فتحررت وأخذت تعلم في قوة من قوته وعظمته من عظمته. وهو الذي يحيي شعورك ويلهب عاطفتك، وتعجب من حالك قبل أن تراه وأن تسمعه، وحالك بعد أن رأيته وسمعته.
فالمعلم العظيم والكتاب العظيم والرجل العظيم ليس هو الذي يلقي عليك ثقل معلوماته، أو ثقل عظمته أو ثقل قدره، وإنما هو الذي يلهمك ويوحي إليك، ويستفز قواك، ويحفز ملكاتك، وعلى الجملة ليس هو الذي يضغط عليك بأية ناحية من نواحي عظمته، ولكنه هو الذي يحررك ويفسح صدرك ويفك قيودك، ويجعلك تتنفس في راحة، وتعمل في أمل هو نجم يتألق لا تشعر يثقله وحجمه، ولكن تشعر بنوره وجماله ووحيه.
إذا كانت عظمة الحكام والأمراء ورجال الضبط والربط ومن غليهم في إشعار الناس بقوتهم وضغطهم وتنفيذ أمرهم وسطوتهم وقضاء كلمتهم، فعظمة المعلم والكتاب والنابغين من رجال الفكر والخلق في إشعار الناي بالتحرر من الأغلال، وفي الإيحاء إليهم بمعاني السمو، وفي إلهامهم معاني الرقي، وبقدرتهم على تعريف الناس بقواهم وملكاتهم وتوجيههم كيف يستخدمون ذلك خير استخدام. وهم كالنجوم كذلك لا يستطيع أحد أن يحجب نورهم، ولا أن يصد إلهامهم، ولا أن يقف سيرهم.
فهل يأتي زمن يفهم فيه المعلم أنه موحى إليه برسالته، ويعرف كيف يؤدي رسالته ؟" - أحمد أمين.
مجلة "التعليم الإلزامي" ع10- ربيع الأول 1354هـ (ص 18 - 19).
0 comments
إرسال تعليق