تعليم الصغار مهنة شريفة وصعبة أيضا |
يستعرض الكاتب إبراهيم المازني(1) في هذا المقال صعوبات تعليم الصبيان، وتلقينهم العلم وإفهامهم، ويقارن بينهم وبين الكبار حيث لا يجد المعلم جهدا كبيرا في إفهامهم، ويؤكد الكاتب هذا الأمر بعد أن جرب بنفسه هذه المهمة "الشاقة"، فوجدها عسيرة أكثر ما كان يتوقع، إذ الأمر يحتاج إلى مهارات زائدة أكثر مما يحتاج إلى الإحاطة بالعلوم؛ بل يعتبر الكاتب الإحاطة بالعلوم أكثر إعاقة لتعليمهم منه من تيسيره.
يقول:
" أشق التعليم تعليم الصغار، وكلما كان الطفل أصغر كانت المسألة أعوص، وقد كنت أستغرب في حداثتي أن أقرأ في بعض الكتب العربية ما يدل على أن قولهم "معلم الصبيان" يكاد يكون مرادفا لقواهم مجنون أو مبخول أو ملتاث العقل، ولكني جربت الأمر - أياما فقط - فلم أعد أستغرب. فإن تعليم الكبار الذين أوشكوا أن يدخلوا مداخل الرجال، لا عسر فيه ولا عناء، وما على المعلم إلا أن يلقي درسه، إلقاء فيه القدر الكافي من التيسير والتقريب، ولكن تعليم الصغار المبتدئين شيء آخر مختلف جدا، وحسبك منه أنه يتقاضلا المدرس أن يفطن إلى حدون تجاوزها هو من سنين وسنين حتى نسي أنها كانت قائمة أو أنه كان لها وجود، وأن ينزل إلى مستوى من الإدراك ارتفع عنه وحلق فوقه، وأن ينظر إلى الدنيا والشياء نظرة الطفل الذي يلفي كل ما حوله جديدا. لا نظرة الرجل الذي صار كل شيء عنده مألوفا، وللطفل استعداد كامل، وهو خلق لا يزال في دور التكوين، والرجل قد استوفى حظه من ذلك، وعرف حدود نفسه وتبين قدرتها بالقياس إلى غاياتها، وقاس مسافات الأمر وقدر أبعاد المساعي، وتحسس مكامن القوة عنده وجسها وامتحنها وألم بما تنطوي عليه. فهما خلقان متباينان متفاوتان يلتقيان ويتواجهان، وعلى أحدهما - الكبير منهم - أن ينظر في نفس الآخر ويفتح جوانبها ويختبرها ويمدها بأسباب القوة ووسائل النمو، ويوجهها وجهتها التي هي أصلح لها.
من أجل ذلك لا يكفي أن يكون المرء واسع العلم عظيم الإحاطة، ولعل كثرة العلم من أسباب الخيبة في هذا الضرب من التعليم فقد تغني الساقية حيث يُغرق البحر، وألزم من العلم أن يكون حظ المرء جزيلا من الحلم والأناة وسعة الحيلة وحسن التدبير، ونفاذ البصيرة وصدق الفراسة والحكمة ولطافة الحس ودقة التمييز، فما في العلم خير بغير ذلك، ومن أجل هذا كان التوفيق في تعليم الصغار عسير المنال، والفشل أقرب منه، ولست أعرف أحق بالتقدير وأولى باستيجاب التعظيم من ملعم صغار موفق، فقد بلوت صعوبة ذلك بالتجربة، وعرفت كيف يتيسر الأخفاق السريع ويتعذر النجاح.
كان الله في عون معلم الصغار، وما أحقه بأن يعذر إذا خف عقله !"(2)
---------------------------------
(1): إبراهيم المازني: من مواليد القاهرة عام 1889م؛ كاتب وصحفي وشاعر مصري معاصر، استطاع أن يجد لنفسه مكانا بين أدباء وشعراء عصره، يتميز أسلوبه بالسخرية. اشتغل بالتدريس والصحافة... له العديد المؤلفات منها: "حصاد الهشيم"، "خيوط العنكبوت" "الكتاب الأبيض"، توفي عام 1949م.
(2): الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني "مجلة التعليم الإلزامي" ع 10 - ربيع الأول 1354هـ. (ص 11)
0 comments
إرسال تعليق