الأربعاء، 27 يونيو 2018

الكون ومكوناته

صورة من قمة بارانال Paranal في صحراء أتاكاما Atacama شمال الشيلي، وتحمل التلسكوبات العملاقة الأربعة.
الصورة: من الموسوعة الحرة

تتيح دراسة الجسم الأسود الكوني رؤية ما كانت عليه بنية الكون عند بداياته. ولا يدل ذلك على شيء فيما يتعلق بكيفية تكون الأجرام أو المجرات أو ركام المجرات، التي نلاحظها في بيئتنا القريبة. ولحسن الحظ يمكننا استخدام قانون فيزيائي معروف تماما لكي نرجع إلى الوراء زمنيا: السرعة المحدودة للضوء. ورصد مجرة تقع على بعد مليار سنة ضوئية، هو رصد لكونها كانت موجودة منذ مليار سنة. وصيد المجرات الشابة يرتكز على الانطلاق للبحث في المناطق الأكثر بعدا. ولسوء الحظ هناك قانون آخر فيزيائي يجيء ضد هذه الخطة: تتضاءل قوة الإشعاع الظاهرية luminosite apparente لأي جرم سماوي مع مربع مسافة هذا الجرم، أي بسرعة كبيرة. ولو استعرضنا مجرة أبعد بمقدار عشر مرات، سوف تظهر لنا أكثر خفوتا بمائة مرة.
ولمعرفة مدى الضخامة، فإن مجرة مثل مجرتنا تقع على بعد 5 مليارات سنة ضوئية، تكون في منتصف عمرها الحالي، تظهر لنا أقل لمعانا بمقدار مائة مرة مقارنة بسماء ليلة معتمة. والأخرى القول بأن البحث عن المجرات الشابة يحتاج إلى تلسكوبات بالغة الضخامة، وهي الوحيدة التي لها قدرة التقاط كافية لرصد المجرات الأكثر بعدا. ولهذا السبب لن تتحقق ثمار هذا البحث إلا بعد استخدام تلسكوبات ضخمة من النوع الذي يتراوح قطره بين 8 و 10 أمتار. وكانت أولى هذه التلسكوبات Keck على قمة مونا كي Mauna kea في جزيرة هاواي Hawaii. ولن تكتفي أوروبا بالتلسكوبات الأربعة ذات الأمتار الثمانية الموجودة في صحراء أتاكاما Atacama.والتي تتضمن التلسكوب بالغ الضخامة Very Large Telescope. وبالفعل بدأ البحث بالتلسكوب الفضائي هابل، القمر الصناعي لناسا مع مشاركة قوية من وكالة الفضاء الأوروبية ESA. ويتيح لك وجودك في قمر صناعي، فوق الغلاف الجوي للأرض أن ترى صورا تحتوي على بقع ضوئية أكثر بكثير مما تراه من الأرض.
وهذا الاختيار الناجح ضروري لرصد الأجرام الأكثر خفوتا. واشتملت الاستراتيجية التي اتبعت خلال السنوات العشر الأخيرة على رصد المجرات البعيدة بواسطة التلسكوب الفضائي هابل، ثم على تمييزها بالتلسكوبات العملاقة على الأرض. وظهر أن هذا الأسلوب مفيد، حيث نجحت عدة مجموعات بين 1996 و 1998 في التوصل إلى أن المجرات البعيدة مختلفة عن المجرات المحلية. وإذا تعرفنا بشكل أفضل على نظير للمجرات القريبة، سنتعرف أيضا على وفرة من المجرات الأصغر، والتي يكون لها لون أكثر زرقة من المجرات المحلية. ويعود هذا اللون إلى وجود نجوم حديثة. لذلك فإن هذه المجرات الصغيرة تكون في أطوار كثيفة بالنسبة لتشكيل النجوم، أشد كثافة بنحو ثلاث مرات من القيمة المرصودة في المجرات القريبة.
هل المدخل الصحيح هو البحث عن المجرات الحديثة واستخذام الضوء المرئي ؟
للرد على هذا السؤال يحب أن نعرف طبيعة آليات بث الضوء بواسطة المجرات.
من المعروف أن المصدر الرئيسي للطاقة هو الجاذبية، وهي التي تسمح للمجرة بأن توجد بصفتها جرما مميزا. والجاذبية أيضا هي التي تسمح للنجوم بأن تتشكل ويكون لها في مركزها كثافات ودرجات حرارة كافية لحدوث التفاعالات النووية. والمصدر الرئيسي للإشعاع في أي مجرة يعود إلى النجوم التي تتوطن فيها. وتحتوي المجرة العادية على بضع مئات من المليارات من النجوم.
والطاقة النووية التي تنطلق في قلبها تتحول إلى إشعاع. والشمس تضيء لنا بواسطة طاقتها النووية، وهو تناقض مسل عن الطاقات النظيفة. ولا تتكون المجرة من النجوم فقط، فهي ممتلئة أيضا بالغاز والغبار. وهذا الغبار ما بين النجوم هو عبارة عن حبيبات تتراوح ما بين بضعة مئات من الذرات، وحبيبات ميكروسكوبية طولها بضعة ميكرونات. وتتحلل إلى نوعين مهمين: حبيبات كربونية وحبيبات من السيليكات. وتمتص هذه الحبيبات جزءا كبيرا من إشعاع النجوم. ومن المثير أنها ساخنة وينبعث ضوء منها ذاتيا. وبالتأكيد هذا سخان متواضع، حيث إن درجة الحرارة المتوسطة لحبيبات ما بين النجوم تقترب من 20 كلفن، أي: 250 درجة مئوية. ومع ذلك، فإن هذا يكفي لأن يصبح هذا الانبعاث قابلا للقياس في نطاق الأشعة تحت الحمراء. ويمكن لهذا السياق من تحويل الطاقة وامتصاص إشعاع النجوم وتسخين الغبار وإعادة الانبعاث في نطاق الأشعة تحت الحمراء، أن يكون مؤثرا حتى إن المجرات في الحلات المتطرفة تشع نحو 100 في المائة من طاقتها في نطاق الأشعة تحت الحمراء. ويمثل ذلك أحد الاكتشافات المهمة للقمر الصناعي IRAS الذي أطلق في 1983 ونفذ من خلال تعاون أمريكي انجليزي هولندي. وكان هذا القمر في الأصل من سلالة الأقمار الصناعية المخصصة لدراسة السماء بالأشعة تحت الحمراء: ISO القمر الصناعي الأوروبي الذي أطلق في 1995 SIRTF القمر الأمريكي الذي أطلق في 2002 وFIRST القمر الأوروبي الذي أطلق في 2007.
ويمثل كل منها نجاحا بمصطلحات الحساسية وتغطية أطوال الموجات والوضوح الفضائي. وبتنسيق بيانات أرصاد ISO و COBE استطعنا التوصل إلى أن المجرات تبث طاقة إجمالية في نطاق الأشعة تحت الحمراء أكبر ثلاث مرات مقارنة بما ينبعث منها في الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية. وأوضح ISO أن المجرات، عندما كانت في منتصف عمرها الحالي، كانت في غالبيتها العظمى باعثا قويا للأشعة تحت الحمراء. فإذا كان 3% مليارات سنة.
ما هو أصل هذه الظاهرة ؟
وفقا لكل الاحتمالات، يتعلق الأمر بوقائع تكوين النجوم الكثيفة التي كانت منتشرة في الماضي. وبدراسة المجرات شديدة السطوع في نذاق الأشعة تحت الحمراء، والتي تم اكتشافها بواسطة IRAS، نعرف أن هذه المجرات في تفاعل مع المجرات الأخرى وتشهد لهيب تكوين النجوم شديدة الكثافة، بعد هذه التفاعلات. وتشير الأرصاد في مجال الضوء المرئي إلى أنه كان يوجد منذ نحو 5 مليارات سنة، حشد من المجرات الصغيرة التي لا تناظرها مجرات في وقتنا الراهن، وأشارت الأرصاد في نذاق الأشعة تحت الحمراء إلى أن المجرات الضخمة لعصر حدوث لهيب تكوين النجوم ترتبط بالتفاعلات بين المجرات. والإغراء شديد في التوفيق بين هذه النوعين من الأرصاد في سيناريو مؤداه أن المجرات الكبيرة ابتلعت المجرات الصغيرة بالتدريج، مما دفع إلى هذه الأحداث المتمثلة في البث الشديد للأشعة تحت الحمراء.
ولم تعد حياة المجرات هادئة مثل حياة الكائنات الحية، فالكبيرة تأكل الصغيرة.
وقد تنبأت نماذج علم الكون بهذا المسار من الاندماج التسلسلي. أما عن سرعة حدوث هذه الظاهرة، فإنها تعتمد على بارمترات parametres النموذج.
لذلك من الممكن بدراسة المجرات البعيدة إحكام النماذج وقيمة بارامتراتها. وسوف يتيح لنا SIRTF وخاصة FIRST تنقيح هذا التصور، والقدر على إعادة رسم التطور تبعا لمرور الزمن. ولا يستطيع ISO سوى وصف ما حدث خلال الخمسة مليارات سنة الأخيرة، وسوف يتيح FIRST العودة إلى أحداث بداية تاريخ المجرات تقريبا.
وتتيح ISO وSIRTF و FIRST اكتشاف هذه المجرات البعيدة وتتيح قياس وفرتها تبعا لتغيرات طول موجتها، ولا يسمح وضوحها الزاوي الضعيف بالحصول على صور صحيحة لهذه المجرات. فالنسبة لهذه المراصد تعبتر المجرات مجرد نقاط وللحصول على صور يجب استخدام قاعدة أخرى. وحتى في الفضاء يكون الوضوح الزاوي لأي تلسكوب محدودا بظاهرة تسمى الحيود Diffraction. ومن المستحيل تحليل مصدرين منفصلين بزوايا أصغر من زاوية محددة تساوي قطر تلسكوب مقسوما على طول موجة الرصد. وبالنسبة لتلسكوب مترين على المدار، تكون قوة جهاز العزل محدودة في نطاق الضوء المرئي ب 0.1 ثانية/ قوس second d'arc أي: 1/36000 درجة. وقد يبدو ذلك ضئيلا، لكنه يظل كثيرا للحصول على صور صحيحة للأجرام التي لا يكون قوس قطرها سوى بضعة ثوان، مثل المجرات التي تثير اهتمامنا. ويكون قطر التلسكوب على المدار محدودا بكفاءات الإطلاق. وحتى لو كانت الولايات المتحدة وأوروبا تأملان في إطلاق تلسكوبات أكثر قطرا على المدار، فإن هذا سيظل بعيدا جدا عن ما يجب، حتى يكون من الممكن الحصول على صور لهذه المجرات.
وأما على الأرض، حيث يضاف إلى ظاهرة الحيود هذه تشور الصور يعود إلى اضطراب الغلاف الجوي، فيصل وضوح الصور إلى ثانية/قوس، في الليالي الصحوة. والحل الوحيد للتخلص من الحيود أو من اضطراب الغلاف الجوي، هو استخدام قاعدة أخرى للتصوير: التداخلات interferences. وكما تعلمنا من دروس الفيزياء، إذا ركب الضوء الذي تم التقاطه بواسطة تلسكوبين، نحصل على نمط من الهوامش المظلمة والساطعة، يعتمد على الطور المناظر للموجات المضيئة التي تصل إلى التلسكوبين. وبتحليل نمط الهوامش يمكن حساب فرق الطور للموجتين؛ ومن تم استنتاج اتجاههما الأصلي. وميزة هذه الطريقة أن التداخل بين الهوامش الساطعة والمعتمة يعتمد على النسبة بين المسافة الفاصلة بين التلسكوبين وطول موجة الرصد. بالجمع بين تلسكوبين متباعدي بمسافة 100 متر، يمكن الحصول على نفس قوة جهاز العزل المماثلة لتلسكوب أحادي monolithique ذي قطر 100 متر، وذلك أيا كان قطر تلسكوبات مقياس التداخل. وتستخدم هذه القاعدة منذ سنوات متعددة في علم الفلك الراديوي. وبدأ استخدامها في الضوء المرئي. وسوف يكون "التلسكوب بالغ الضخامة" الأوروبي من نوع مقياس التداخل الذي يجمع بين الضوء الذي تستقبله التلسكوبات الأربعة التي يتكون منها. لكن الجهاز الممتاز لدراسة المجرات البعيدة سيكون AI.MA, وستكون مجموعة أتاكاما الملليمترية الضخمة هذه عبارة عن شبكة من 64 هوائيا قطر كل منها 12 مترا، سيتم تنظيمها على هيئة متصلة بواسطة الأمريكيين والأوروبيين في صحراء أتاكاما على ارتفاع 5000 متر في الشيلي؛ وسوف تعمل في نطاق الأشعة تحت الحمراء البعيدة ما تحت الملليمترية. وستتيح الحصول على صور بوضوح زاوي أفضل من جزء من مائة من الثانية القوسية.

0 comments

إرسال تعليق