التشريح البشري | Human Anatomy
إلى غاية القرن السادس عشر الميلادي، كان الأطباء يعتمدون على مصادر للتشريح البشري ألفت معظمها على أساس تجارب الحوانات. لا عجب إذن، أنها كانت تحتوي على كثير من الخرافات فتخطئ أكثر مما تصيب. كان فازيليَس Vesalius أول من تناول تشريح الجسم الآدمي كمادة لدراسته، معتمدا على الوسائل العلمية المتمثلة بالتجارب الفسلجية وطريقة المعاينة المباشرة. فكانت شروحاته الأدق والأضبط عن تركيب وعمل أعضاء جسم الإنسان.
قوض عمل فازيليَسمن ذلك الاعتماد الطويل الأمد على الآراء التي جاء بها العالم الإغريقي غالين Galen قيل ما يقارب 1500 عام، وشكل منعطفا بارزا في علم الطب.
فللمرة الأولى حلت الحقيقة التشريحية الصادقة محل الحدس والتخمين كلبنة أساسية للعلوم والممارسات الطبية.
- كيف حصل هذا الاكتشاف ؟
ولد أندرياس فازيليَس Andreas Vesalius في مدينة بروكسيل عام 1515م. ومنذ نعومة أظفاره، انكب على دراسة جميع المراجع الطبية التي كانت تزدهر بها مكتبة والده باعتباره طبيبا مرموقا يعمل في البلاط الملكي، مبديا اهتماما وفضولا كبيرين حول فهم وظائف وميكانيكية عمل أعضاء جسم الكائنات الحية. وكان يهوى اصطياد الحيوانات الصغيرة ويقوم بتشريحها.
بعمر الثامنة عشرة، رحل فازيليس إلى باريس لدراسة الطب. في حينها لم يكن تشريح الأجسام الحيوانية أو البشرية من الممارسات الشائعة في الطب، ولو توجب عمل تشريح لجسم ما، فكان يتم من خلال قيام الحلاق بعمليات قطع حقيقة بينما يشرح الأستاذ معلقا عليها. كان الجزء الأعظم من التشريح البشري يدرس بناء على رسومات ونصوص مترجمة عن الطبيب الإغريقي القديم غالين تعوم إلى عام 50 ق.م.
سرعان ما ذاع صيت فازيليس بأنه طالب حاذق وذكي ولكن متعجرف وكثير المجادلات، فخلال ثاني دروسه في التشريح، تناول السكين من يد الحلاق وأدهش الجميع بمهاراته اليدوية في القطع وظهر كشخص واسع المعرفة بالتشريح.
مايزال طالبا في الطب، نظم فازيليس ثورة خطيرة. إذ كان يحث بعضا من رفاقه على نبش مقابر باريس للحصول على العظام والأجسام الآدمية الميتة. وتجرأ هو بنفسه على كلاب الحراسة الشرسة والروائح النتنة لهضبة مونافاكون بباريس (حيث تجمع جثث المجرمين بعد إعدامهم) وذلك طمعا في الحصول على جثث طازجة لتشريحها ودراستها.
تخرج فازيليس عام 1537م وانتقل بعدها لجامعة بادوا بإيطاليا، حيث بدأ فيها سلسلة طويلة من المحاضرات تركزت على عمليات تشريح حقيقية وتجارب نسجية آدمية.
فتهافت الطلاب والأساتذة على محاضراته تلك، مستمتعين بمهاراته العالية ومفاجآته المستمرة في شرح تراكيب جديدة عليهم كالعضلات والأوعية الدموية بل وحتى الأجزاء الرقيقة للدماغ البشري.
كلل فازيليَس عمله بمحاضرة ألقاها من على مسرح محتشد في بولونيا في يناير عام 1540م. وكغيره من الممارسين لمهنة الطب، درب فازيليس على الإيمان بأفكار غالين والتي عارضت الكثير من الحقائق التي توصل إليها من خلال تجاربه. وكان هذا بالتأكيد مصدر مضايقة وإزعاج كبيرين له.
ففي هذه المحاضرة، أعلن فازيليس أمام الملأ - وللمرة الأولى - رفضه لشروحات غالين في التشريح موضحا أن وصفها للعظم المنحني للفخذ ومحاجر القلب والعظام المفصصة للقفص الصدري وغيرها كان ينطبق على تركيب أجسام القردة أكثر منها على أجسام البشر. فأفاض فازيليس في تبيان أكثر من 200 فرق بين التشريح الحقيقي للجسم البشري وشروحات غالين السابقة وسط دهشة الجميع. كيف لا و أن فازيليس يبرهن أن كل ما اعتمد عليه الأطباء والجراحون في أوروبا كان ينطبق على القردة والكلاب والمواشي، وبأن كل ما أتى به غالين وكل كتاب طبي آخر من قبل كان باطلا !
طاعنا المجتمع الطبي المحلي في صميم فهمه، انزوى فازيليس لما يربو ثلاثة أعوام منهمكا في وضع كتابه المفصل عن التشريح، معتمدا على فنانين أكفاء لرسم ما كان يشرحه أمامهم من تراكيب بشرية كالعضلات والعظام والأوتار والأوعية الدموية والأعصاب والأعضاء الداخلية والدماغ.
أنهى فازيليس كتابه الفخم عام 1543م. وانصدم وهو هذه المرة بتشكيك الأوساط الطبية له مفضلة تمسكها بآراء غالين كما اعتادت على ذلك دائما. فأقدم فازيليس على قرار خطير - أحرق بنفسه جميع ملاحظاته ودراساته وأقسم على عدم القيام بتشريح أجسام آدمية قط بعد ذلك ! لحسن حظنا، كتبت الحياة لكتابه المنشور ليصبح المرجع القياسي لعلم التشريح البشري لما يزيد عن 300 عام.
- هل تعلم ؟
أن متوسط وزن الدماغ هو ثلاثة أرطال ويحتوي على حوالي 100 بليون خلية عصبية تترابط بحوالي 500 تريليون تشجر ! فلا تعاتب فازيليس تعذره عن وصف الخلايا العصبية المنفردة.
0 comments
إرسال تعليق